Lencana Facebook

النقد الأسطوري وتحدي المتغيرات مدخل سجالي



يعتبر الأدب المقارن من الدراسات التي حظيت باهتمام كبير في النصف الثاني من القرن العشرين. والمقارنة لا تنحصر في حدود التماثل أو التشابه وحسب، بل تمتد لتشمل التأثير المتبادل واستقبال الآداب الأخرى وطريقة التعامل معها. وقد توسعت هذه الدراسات لتشمل أحقاباً أدبية وليس فقط أفراداً بعينهم، ولتقرأ تماثلات النظرية الأدبية وتبين أسبابها.
فما سبب تقارب ملمح ربط السامي بالجليل عند هايني بملمح ربط السامي بالغريب عند هيغو. وما سبب قيام الدادائية في أوروبا وقيام "الأدب المضاد" في أميركا، وهما من طينة واحدة وفي وقت واحد، مع أنه لا صلات بينهما؟ وأحياناً يجري التساؤل عن سبب اختلاف أثرين أدبيين كتبا في فترة زمنية واحدة من منظور واقعي واحد، كالحرب مثلاً.


ازدادت الدراسات المقارنة تخصصاً، فلم تقف عند حدود التماثل والتباين أو التأثر والتأثير المتبادل، أو الاستقبال وطريقته في التفاعل مع الآداب الوافدة وحسب، بل أمعنت في البحث عن "مسيرة الأدب الطويلة" التي تستغرق آلاف السنين. ومن هذه الدراسات تلك التي أشرف عليها آرثر هاتو حول دراسة جنس أدبي معين فقط، عبر حقبة زمنية واسعة. الجنس الأدبي الذي أشرف عليه هاتو كان بعنوان "لقاء العشاق وافتراقهم عند الفجر في الشعر" (براور "الدراسات الأدبية المقارنة" منشورات وزارة الثقافة بدمشق 1986 ص81).
وقد جمعت الأشعار التي تندرج تحت هذا الموضوع، منذ أقدم شاعر بدائي وحتى عصر شكسبير، من أصقاع وعروق مختلفة كل الاختلاف، كما يقولون، درست هذه الأشعار دراسة مقارنة انتهت إلى نتيجة مذهلة وهي وجود تشابه كبير فيما بينها. إنه تشابه بلغ حد التشابه بين قصيدتين في موضوع واحد كتبهما شاعر واحد.
وعندما اكتشفت ألواح أوغاريت في الشاطئ السوري عثر على قصائد يتساوى فيها أقدم شاعر أوغاريتي مع أحدث شاعر سوري (طبعاً إذا كان الموضوع واحداً). وفي بلاد الرافدين لوحظ أن عبثية كامو ويونسكو وسواهما، لا تزيد عن عبثية بعض النصوص التي عرجت عليها الألواح السومرية. وإن سفر "الجامعة" ليس أكثر من توسيع لما جاء في ملحمة كلكاميش، كلمحة عجلى وعابرة حول هذا العمر الذي يتبخر ويتبدل من غيران يترك أثراً يذكر بعده.
وسواء عزونا هذا التماثل الذي يكاد يقع فيما يشبه التكرار أحياناً، إلى العامل الاجتماعي أو إلى العامل النفسي، أو حتى إلى المزاج والطباع الذاتية المتشابهة، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل "النظام الأدبي" الذي انتجته المخيلة البشرية. إن هذه النصوص لم تختر من مجتمعات أو نفوس أو أمزجة متقاربة بالمعنى السطحي الذي يجعلنا نقول أن شاعرين مختلفين بالمزاج هما مختلفان حتماً في الموضوع الشعري الواحد. إن الانطوائي يختلف عن الانبساطي اختلافاً تعكسه النصوص هنا وهناك، ولكنهما لا يختلفان إلى حد أن الأول (وليكن بدائياً) يشبه الوجه الجميل بالقمر، بينما الثاني (وليكن معاصرنا من القرن العشرين حيث ظهر القمر على حقيقته) يشبه الوجه القبيح بالقمر. فمهما حاولنا اللجوء إلى تفسير التشابه بالوضع الاجتماعي المتماثل أو النفسي أو المزاجي، فإن ذلك لا يعفينا من الإقرار بوجود "نظام أدبي" وطيد وراسخ، بل ونقول أنه نظام صارم، منذ القديم القديم. قد يفسر الوضع الاجتماعي أو الجغرافي أو الظروف العامة أوجه الاختلاف أكثر مما يفسر أوجه الائتلاف، كأن نلجأ إلى هذه الظروف في تفسير ظهور المسرحية عند اليونان وليس عند غيرهم. لكن هذه الظروف لا تسعفنا في تفسير التشابه في أغاني الزفاف -مثلاً- التي تكاد تكون واحدة منذ أيام سافو وحتى أيام سيد درويش، بل حتى أي أغنية زفاف في أيامنا هذه. العروس في هذه الأغاني يجب أن تكون جميلة الوجه والقوام ولو كانت تنفر منها الضبع، تتمختر بدقة وغنج ولو كانت مشيتها كمشية جندي في صفوف الصاعقة النازية، تحوطها الورود والرياحين ولو زفت من دون زينة. وهي رقيقة أنيسة أليفة ولو كانت شرسة كنمرة شكسبير.
لكن هذا لا يعني انفصال النظام الأدبي عن المجتمع والنفس والمزاج، لأن النظام الأدبي يمثل "ما يجب أن يكون". ولهذا يتساوى مجتمعان متغايران في أغاني الزفاف، لأن هذه الأغاني "يجب" أن تكون كما يريد النظام الأدبي الذي يقر به هذان المجتمعان المتغايران، أو على فرض أنهما متغايران. ومن هنا نقول أن المجتمعات تميل إلى التشابه والتماثل في النظام الأدبي لأن هذا النظام هو عرف اجتماعي ونفسي ومزاجي مهما كانت المجتمعات والنفوس والأمزجة متباينة ومختلفة. إنه أشبه بعقد، كعقد جان جاك روسو. وحتى الشاعر المناهض للزفاف سوف ينخرط في تيار النظام الأدبي فينظم وفق متطلباته.
لسنا بصدد عرض نظرية النقد الأسطوري في النظام الأدبي ودراسة فروع الأدب المختلفة ومدى خضوعها لهذا النظام، ولكننا نشير إلى قانون عام وشامل وهو تقصي الظاهرة الأدبية من خلال نسقها الخاص القائم على نظام خاص. وهذا النظام الخاص لأي ظاهرة لم يهبط من السماء، بل ظهر من الوجود البشري ذاته. فلو أخذنا أي لعبة رياضية كالملاكمة والمصارعة ورمي القرص وقذف السهم.. لوجدنا أنها تخضع لنظام. صحيح أن هذا النظام ظهر من المجتمع، ولكنه لا يتأثر بظروف المجتمع وتقلباته. فالألعاب الأولمبية بدأت بداية عشوائية في أول الأمر، ولكن مع الزمن ترسخ نظامها في القرن الثامن قبل الميلاد، ومنعتها الامبراطورية الرومانية في القرن الرابع بعد الميلاد نزولاً عند رغبة المسيحيين المتشددين. وعندما بعثت في أواخر القرن التاسع عشر حافظت على نظامها وما تزال حتى اليوم. ولا شك أننا نعتبر الألعاب الأولمبية الآن ألعاباً حديثة، لا بمعنى أننا وضعنا لها نظاماً مغايراً، وإنما بمعنى أننا وضعنا المزيد من القوننة علىهذا النظام، بحيث صار أكثر دقة، وصار زمن السباق يحسب بواحد من مئة أو ألف من الثانية، وربما توصلنا إلى حساب الواحد من مئة ألف، فمن يدري.؟ لكن هذا لم يغير من النظام الرياضي القديم شيئاً، وإن أضاف إليه المزيد من الضبط، ولعبة الألغاز تظل واحدة، على الرغم من تعددها وكثرتها، من أيام أبي الهول والغازة وحتى فوازير رمضان.
والغرض من تعريجنا على هذه النقطة هو التشديد على أن "النظام" ليس ميزة للأدب وحده، يفرض نفسه رغم التباينات الكثيرة والمفارقات العديدة بين المجتمعات، وإنما ظاهرات كثيرة لا نستطيع أن نفسرها إلا اعتماداً على نظامها الخاص. وعلى هذا النظام تلح نظرية النقد الأسطوري وتعتبره من نتاج اللاوعي الجمعي. وقد استرعى هذا اللاوعي اهتمام النقاد في الميادين الأخرى ولم يقتصر على الأدب وحده. فالناقد الفني غراهام كوليير يعير هذه الناحية اهتماماً خاصاً، فهو يشبه هذا اللاوعي بالنهر الذي يجري تحت أرض كلسية. فيمكن أن ينفجر ويصبح سيلاً عارماً بعد الأمطار الغزيرة. وكذلك تيار اللاوعي، فمن الممكن أن يقذف إلى الوعي بالصور الفنية. ويرى أن هذا التيار فرضي لا يمكن البرهنة عليه إلا أن من الممكن التلميح إلى وجوده اعتماداً على جوانب غريزية من التجربة والسلوك النابعين من المخيلة النفسية. فعلى الرغم من الأصل العرقي والتباين الحضاري نلاحظ أن الناس يبصرون في أثناء نومهم الأحلام ذاتها، بقضها وقضيضها، لا تبديل ولا تغيير.
يقول كوليير:
ويمكن تشبيه اللاشعور بمخزن ومحطة توليد كهربائية جاهزين مجتمعين. وحين يتأثر الفنان بالتيار الوارد من هذا المصدر يتراجع الشعور العقلاني، ولا يكون له صوت كبير في تشكيل الصورة ولا تحكم كبير في مد الإحساس المحض. وبالإضافة إلى ذلك ليس في استطاعة الفنان التحكم في الآلية التي بواسطتها تتحرك هذه الرواسب الغريزية من التجربة التخيلية داخل الشعور. إنه ليس بإمكانه أن يريد لهذه الصور الأولية أن تجيء ولا أن يعيق مجيئها. فهي تعمل سراً عبر الحد الذي يفصل اللاشعور عن الإدراك الشعوري، وحتى حارس الحدود اليقظ المعروف باسم "العقل" يبدو عاجزاً عن التحكم بهذا التغلغل، إذ هناك أوقات أثناء إبداع عمل ما، يجد الفنان عقله فيها خاوياً والإحساس الموضوعي أو المحرض من الخارج معطلاً بأكمله. في مثل هذا الفراغ يصبح فعل الرسم أو التشكيل "وفق نموذج معين" نشاطاً لا صياغة للأفكار فيه، يشبه السبات. ولكن في وقت مثل هذا تقوم طبقة الأساس السفلية بعملية الاختراق. ويعمل الشخص تحت التأثير الاجباري لصورة تتطور وتظهر نفسها له ببطء. ثم تكون النتيجة المكتملة كشفاً مفاجئاً بالنسبة للفنان بقدر ما هي بالنسبة لأي شخص آخر (الفن والشعور الإبداعي، ترجمة منير الأصبحي، وزارة الثقافة، دمشق 1983 ص5/1 وما بعدها).
هذا اللاوعي الجمعي ليس عشوائياً، كما قد يظن بعضنا. إنه يؤلف نظاماً مشتركاً بين البشر. ومنه ظهر النظام الأدبي الذي يمتلك قوانين صاغتها حديثاً نظرية النقد الأسطوري.
* * *
تأخر ظهور النقد الأسطوري عندنا إلى أواخر السبعينات. كانت الساحة النقدية ملكاً للنظريات الأدبية الحديثة الأخرى من أمثال الماركسية والوجودية والفرويدية. تحدثنا عن "اللاوعي" منذ الخمسينات حديثاً مفرطاً. إلا أن هذا اللاوعي لم يكن هو اللاوعي الذي تقر به نظرية النقد الأسطوري. وحتى الآن لا يوجد تفسير مقنع لسبب تأخر ظهور النقد الأسطوري ولا لسبب الظهور المتقدم لنظريات أخرى كالماركسية والوجودية والفرويدية. هل تماسنا مع هذه النظريات سبب مقنع؟ ولماذا التماس مع هذه النظريات دون غيرها؟.. هل كانت ظروفنا تستدعي ذلك؟.. إذن ما الذي تغير حتى أهملنا الآن النظرية الوجودية اهمالاً شبه كامل؟ ولماذا -مثلاً- اخترنا فرويد ولم يظهر صوت يونغي واحد؟ هل المعركة القومية هي التي فرضت مثل هذا التوجه؟.. فهل كان ثمة ضير في أن نتعرف على النقد الأسطوري أو كان ثمة "ظروف" تمنع من ظهور هذا التيار؟.. هل كانت الأسطورة تعني لنا تدمير أهدافنا القومية، أو أنها مدخل إلى الميتافيزياء التي كانت مرفوضة كل الرفض في تلك الأيام؟
إن الدراسات التي ظهرت قبل أواخر السبعينات كانت تشير إلى شيء من هذا القبيل. فكتاب "الأسطورة في الشعر المعاصر" (بيروت 1959) لاسعد رزوق يرى الأسطورة في الشعر العربي إنها نتيجة استقبال قصيدة اليوت المشهورة "الأرض اليباب" ويعالج موضوعه على هذا الأساس. فكما أن قصيدة اليوت ترثي حضارة الغرب المحتضرة المسرعة إلى الموت المحتوم، كذلك نجد الشعر العربي الحديث ينحو هذا المنحى، فهو ليس أكثر من صدى الشاعر الانكليزي الأميركي اليوت. والفرق بين الشعراء العرب واليوت هو أنهم عمدوا إلى الرموز الشرقية للأسطورة، وابتعثوا آلهة شرقية لم ترد عند اليوت.
الدراسة الثانية التي ظهرت هي "مضمون الأسطورة في الفكر العربي" (بيرت 1973) لخليل أحمد خليل. وهي لا تعتبر دراسة أدبية بقدر ما تعتبر تشخصياً لاتجاه الفكر العربي نحو الميتافيزياء. ولذلك يفسر تخلفنا في كل شيء بالفكر الأسطوري، فحيثما كان التخلف تكون وراءه الأسطورة، أو بالأصح الفكر الأسطوري الموجه لتصرفاتنا. ولهذا يربط بين الفكر الأسطوري وبين العبودية الاجتماعية، بينه وبين الاستلاط السياسي وقيام الأنظمة القهرية، وما شابه ذلك من أنواع الإعاقات لظهور الفكر العلمي الاجتماعي.
وفكرة خليل هذه ضعيفة على الرغم من نبل مقصدها واستهدافها التقدمي الإنساني وصدق صاحبها في دعوته إلى الخلاص من التخلف الذي يخيفه ويتوجس من أنه سيستمر مدة ليست بالقصيرة.. إلى أن نصفي حساباتنا مع الفكر الأسطوري.
وضعف هذه الفكرة يثبته التاريخ، فأعظم ديمقراطية عرفها العالم ظهرت في أعظم دولة يسودها الفكر الأسطوري وهي الدولة الاثينية التي كانت تربي أبناءها على الفن والأدبي والموسيقى وكلها فنون منحدرة من الأسطورة، أي من الفكر الأسطوري. والتقدم الذي حققته هذه الدولة هو الذي يعتبر اليوم التراث الإنساني الأمثل في السياسة والحكم والأدب. فحتى الآن لم نمارس سوى جزء بسيط من الديمقراطية الأثينية، فنحن ننتخب ولا نقترع. والاقتراع هو وسيلة ديمقراطية لمنع الأغنياء من استغلال اللعبة الديمقراطية، فالناجحون، في الانتخابات، ويكون عددهم أكثر من العدد المطلوب في المجلس حتماً، يخضعون لعملية اقتراع، أي ضرب القرعة حيث يكون النجاح عن طريق المصادفة المحضة، فالناجح في الاقتراع هو الذي يدخل المجلس وليس الناجح في الانتخاب، لأنه قد يكون غنياً كبيراً يشتري الأصوات. أما القرعة فكانت تجري في الساحة العامة، وأمام جميع الاثينيين، ويقال أن الأولاد الصغار كانوا يحضرون الاقتراع كي يترسخ فيهم حس الديمقراطية، فلا يقصرونها، إذا ما كبروا على الانتخاب الذي يأتي بالأغنياء والمنافقين أكثر مما يأتي بالرجال الصادقين. وقد حكمت هذه الديمقراطية بالموت على شخص كسقراط "العلمي" الذي أيد الدكتاتوريين الذين استلموا زمام السلطة فترة من الزمن، والذي كان يرفض الأسطورة أو التفكير الأسطوري، وحملته مسؤولية كل هذا التخلف. فنظمنا السياسية والرياضية والأدبية.. هي من التراث الاثيني الذي كان يعتمد التفكير الأسطوري.
الدراسات التي تدخل في صلب النقد الأسطوري تأخرت حتى أواخر السبعينات ومن هذه الدراسات نشير إلى:
1-أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث (بيروت 1978) لريتا عوض التي اكتفت بتلمس جانب الموت والانبعاث في الشعر العربي. وهو جانب هام من دون شك، لكن الباحثة تصيب إذ تدخل إلى الصور الكبرى التي يلعبها الخضر أو العذراء أو ما شابه ذلك من الأنماط الأولية: أب- أم- ابن .. الخ وبذلك تكون قد أسهمت في تقديم جانب هام من جوانب النقد الأسطوري. إنه -في اعتبارها- أهم جوانب النقد الأسطوري، أو بالأحرى، إنه الجانب المحوري.
وقد أتبعت هذا الكتاب بكتاب آخر ظهر بعد سنوات وهو "أدبنا الحديث بين الرؤيا والتعبير" (بيروت 1979)
2-الرؤيا في شعر البياتي (دمشق 1986) لمحي الدين صبحي. وفي هذه الدراسة تبرز ناحية أخرى من النقد الأسطوري يعتبرها الباحث هامة جداً وهي "القناع" أو ما يسميه يونغ "البرسونا" ويرى الباحث أن دراسته تستخدم لأول مرة في النقد العربي" تقنية القناع" ودوره في التعبير عن حلم الجماعة. ويرى أن هذا النموذج البدئي -أو الأولي- للشاعر رفع إلى أعلى درجات الأمُثَلَة تحت أقنعة الحلاج والمعري والخيام ولوركا وأبي فراس وغيفارا.. ثم تماهت الأبطال والعصور لتشكل رؤيا موحدة عن الحضارة العربية الإسلامية، رؤيا تبلغ من الأمثلة والصفاء والعمق أنها تسدّ حاجة الأمة في واقعها المهيض إلى تلك النماذج الحضارية العظمى تطل عليها من وراء الغيب فترعاها.
وفي هذا مؤشر إلى إمكانية قيام "نظرية عربية" في الأدب، وتأكيد على أن الأدب هو نظام عالمي، ليس الآن وحسب، بل منذ آلاف السنين، منذ البدايات الأولى.
3-الأداء الأسطوري في الشعر العربي المعاصر (مجموعة ميرادية 1992) لعلي البطل. وهنا نجد أنفسنا أمام دراسة أشمل، لا تقتصر على التشديد على ناحية أكثر من غيرها. فالباحث يعرض علينا الأداء الأسطوري في شعرنا وكيف انتقل من التعامل مع الرموز الأسطورية إلى التعامل مع منطق الأسطورة. ففي البداية كان الشعراء يستخدمون أسماء أبطال أسطوريين للدلالة على مقصدهم، لكنهم فيما بعد اتقنوا منطق الأسطورة ذاته واستخدموه في أدائهم، فلم يعد الشاعر ينتقي من الأساطير ما يحمل مضمونه المرغوب، بل صار يصوغ بنفسه لغة الأسطرة.
ويؤكد على ملمح دقيق في لغة الشعر وهو التفريق بين "لغة الطقس" و"لغة الحياة" اليومية"، فالشعر يستخدم الاثنين معاً ولكن الحاصل يكون إبداعاً فنياً خاصة إذا كان الشاعر قادراً على التحكم في توظيف اللغة اليومية واختار ما يوحي بمكنون الصورة الشعرية، أو الصور الشعرية التي تستخدم لغة الطقس. وبذلك يكون الشاعر قد قام بالتعديل بالمناسبة ووافق بين الأسطرة وبين الواقع اليومي الذي بسببه يضطر الشعر إلى التجديد والتعديل.
لسنا بصدد تعداد الدراسات التي قدمها النقد الأسطوري، وإلا كان علينا الإشارة إلى كتب علي البطل نفسه من أمثال "الصورة في الشعر العربي" (بيروت 1981) وكذلك "شبح قايين بين ايديث سيتويل وبدر شاكر السياب" (بيروت 1984) وهو -على ما قاله لي- بصدد متابعة نشاطه النقدي، من أجل مهر النظرية الأدبية الحديثة بالإسهام العربي.
* * *
غرضنا من هذا البحث هو تقديم صورة إجمالية للنقد الأسطوري وتبيان حدوده وموقعه في مرسوم النظرية الأدبية الحديثة، أو بالأحرى النظريات الأدبية الحديثة. وقد بينا سبب قيام النظرية الأدبية الحديثة ومسوغاتها وعرضنا للتيارات المختلفة لهذه النظرية من شكلانية وبنيوية وماركسية.. الخ وقارنا بين النظرية الأدبية الحديثة والنظرية الأدبية القديمة قبل عرض أهم جوانب النقد الأسطوري.
وقد فسرنا سبب تأخر ظهور النظرية الأدبية الحديثة حتى بداية القرن العشرين. وهو اجتهاد أرجو أن نكون مصيبين فيه، فنحن لم نعتبر الانطباعية والرومانسية والطبيعية وبقية النظريات الأدبية في القرن التاسع عشر من ضمن "النظرية الأدبية الحديثة" وقدمنا الأسباب التالية، التي سبق أن عرضناها في كتبنا السابقة، وعلى الأخص كتاب "الحداثة عبر التاريخ":
1-النظرية الأدبية القديمة تمثل الحداثة الزراعية وهي الحداثة الأولى التي صاغها اليونان بالنيابة عن العالم صياغة رائعة. وظلت هذه الحداثة تفعل فعلها حتى حلت العصور الوسطى فأبطلت الكنيسة الغربية فعل الحداثة الذي استمر ببطء شديد طيلة هذه العصور ولم يكن له أي اسهام يذكر.
2-النظرية الأدبية الحديثة تمثل الحداثة الصناعية أو الحداثة الثانية. وقدرنا أن هذه الحداثة بلغت أوجها في الربع الأول من القرن العشرين.
3-ألمحنا إلى احتمال قيام نظرية أدبية جديدة، بعد أن تتحقق الحداثة الثالثة، وهي الحداثة التكنولوجية الدقيقة وما نلاحظه من ثورة إعلامية ومن تقدم مذهل في هندسة الوراثة. وأشرنا إلى البدايات الأولى لهذه النظرية التي ترافق الحداثة الثالثة.
* * *
تبقى مشكلة المصطلحات التي يستخدمها النقد الأسطوري من أمثال السوما والاسكيا والظل والقناع والانبساطي والانطوائي والين واليانغ أو الانيما والانيموس والبارادغما والفارماكوس.. وغير ذلك من المصطلحات الكثيرة جداً. فقد حاولت الاقتصار على الأهم منها، مما اعتقدت أنه يخدم الغرض الذي من أجله كتبنا هذا البحث.
كان في مقدورنا الاستفادة من الجهد الكبير الذي بذله الباحث المصري المتخصص محمد حمدي إبراهيم في كتابه "دراسة في نظرية الدراما الإغريقية "وهي دراسة متأنية ودقيقة لجانب كبير مما يفيدنا في بحثنا، فقد قدم ترجمة لكثير من المصطلحات اليونانية، إلا أننا لم نرغب في توسيع دائرة المصطلحات حتى لا يكون البحث متسيباً، أو عرضا للمصطلحات، ولكن الشيء الذي نرغب إلى القارئ أن ينتبه إليه هو أننا عندما نقول تراجيدياً وكوميدياً، فإننا لا نقصد الدراما أو المسرح. إننا نقصد نوعين أدبيين كبيرين يندرج تحتهما الشعر والقصة والرواية والمسرحية وبقية الأنواع الأدبية، فالمنظور هنا هو منظور طقسي، كما سوف يرى القارئ.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرومانس أو السخرية والهجاء.
ومع أن رواية "يوليسيس" لجيمس جويس تعتبر من أشهر روايات القرن العشرين، ومن أصدقها نمذجة للنقد الأسطوري، فإننا لم نقف عندها طويلاً في شرحنا لنظرية الانزياح، لأن مؤلفها كتبها عن سابق تصور وتصميم، إذ كان الرجل صديقاً حميماً ليونغ، وكان من أشد أنصاره حماسة. وقد خصه يونغ بدراسة تعتبر فريدة من نوعها. وقد عرجنا عليها تعريجاً حتى لا يقال أن الباحث يؤيد البرهان بالدعوى ذاتها، وكان لنا في غيرها مندوحة واسعة.
ليس لنا من وراء بحثنا أي غرض للمفاضلة، بل إن ما نصبو إليه هو التعرف على "النظام الأدبي" الذي تؤكد عليه النظرية الأدبية الحديثة. والمهمة الأولى لكل نقد هي الوصول إلى "نظام" الظاهرة التي يتعامل معها، ومدى قدرة هذا النظام على تحدي المتغيرات إما باستيعابها ضمن هيكله أو بإفساح المجال أمامها لترسم معالمها ضمن هذا الهيكل، أو يعدل من بعض أجنحة هيكله ليتكيف مع هذه المتغيرات وقد وضع النقد الأسطوري نظريته في الانزياح والتعديل، ليكون أفقاً مفتوحاً أمام كل الانتاج الأدبي الحديث، مع تأكيده الشديد على الأنماط الأولية التي صاغتها البشرية عبر مسيرتها، والتي تعتبر راسخة جداً ووطيدة جداً.



0 komentar:

Posting Komentar

أهلا وسهلا في رحاب الآداب العربية مع حليمي زهدي.