Lencana Facebook

يونغ وصخب التطور


يعتبر الإغريق أول شعب هندس الأدب. وإذا قورن أدبهم ببقية آداب شعوب البحر الأبيض المتوسط يمكن اعتباره أدباً يمثل الحداثة الأولى، أو حداثة المرحلة الزراعية، مع أن الإغريق لم يكونوا متطورين في الزراعة ولا في الصناعة.. كانوا شغوفين بالفن والأدب والرياضة والموسيقى.. وحتى الآن ما تزال حداثتهم تفعل فعلها في أدب هذه الأيام(1).
كان الإغريق يؤمنون بالسمو والتفوق، ولكن ليس في النواحي المادية بمقدار ما هو في النواحي الإنسانية الرفيعة التي تغني جوهر الإنسان ولا تقف عند العرض. وقد اهتموا بالعمق الإنساني الذي لا يمكن تربيته إلا بالجماليات. كانوا يشعرون بالوحوش الهاجعة في النفس البشرية. القضاء عليها مستحيل. وحتى تبقى هاجعة لا بد من الاهتمام بالسمو لتمكين الإنسان من السيطرة عليها وترويضها، أو لابقائها هاجعة على أقل تقدير وقد نشدوا هذا السمو في الأدب والفن والفكر.



ومن هنا برز تباين مذهل بين البناء الفوقي والبناء التحتي عندهم. وهذا ما يطلق عليه اسم /المعجزة اليونانية/ التي كثرت تفاسيرها بعدد المفكرين والدراسين.
إذن هناك انخلاع أو ما يشبه الانخلاع للآثار الفنية والأدبية عن ظروفها المادية. لكن ماركس يرى أن الظروف المادية أقوى فيتساءل: هل ينسجم اخيلوس مع البارود والرصاص، أو بكلمة موجزة هل تنسجم الالياذة مع الصحافة أو مع آلة الطباعة؟ ألا تختفي الأغنية والقصيدة الملحمية وربة الشعر بالضرورة أمام مسطرة عامل الطباعة؟ أفلا تتلاشى الشروط الضرورية للشعر الملحمي؟
(2).معنى ذلك أن ظاهرة الانخلاع عابرة وليست مستديمة فالمعول أخيراً هو الشروط المادية. وقد كان في هذه النقطة متساوقاً مع دارون في التفاعل الحاصل بين البيئة ومن فيها بحيث تفرض شروطها حتى على البناء الفوقي مهما كان منخلعاً عن ظرفه. إن التطور لا يرحم وسوف يغير كل شيء.
لقد أحدثت الداروينية ثورة حقيقية في عالم الفكر، مع أن دارون لم يتطرق إلى التميز بين البنية التحتية والبنية الفوقية على النحو الذي سيسير فيه ماركس والماركسية فيما بعد، وقد اقتصر على التطور البيولوجي فقط.
لكن الفكر عندما يلتقط حقيقة من الحقائق أو أطروحة من الأطروحات فإنه يعمل فيها تشريحاً وتفكيكاً إلى ما لا نهاية. فهل التطور مقتصر على البيولوجيا؟ هل أفكارنا تتطور بتطور البيولوجيا؟ أم أن الأفكار نفسها عامل من العوامل المؤثرة في التطور؟ ألا يحق أن نفرض مع لامارك أن الصفات المعنوية المكتسبة تورث كالصفات العضوية؟ وإذا كان الفكر يتطور فإلى أي مدى يمكن أن يتطور بغض النظر عن الشروط البيولوجية والبيئية؟ وما مكانة الفكر والنشاط الجمالي في وسط العوامل الكثيرة والمتفاعلة؟
لقد قدم تطوريو القرن التاسع عشر تفسيرات كثيرة يتقارب بعضها من بعض وأحياناً تتباين بل تتناقض. إن التطور الذي يوهم المرء أن تطبيقه في مجال المجتمع والنشاط الجمالي سهل وواضح هو من أشد الممارسات صعوبة. فحتى دراسات هربرت سبنسر في الأداب والفنون التي تعكس الداروينية أكثر من غيرها لانتقادات قاسية(3). فهو يرى أنها تتطور من الأدني إلى الأعلى ومن البساطة إلىالتعقيد شأنها في ذلك شأن الحياة نفسها. وهذه نتيجة خلافية جداً، فهناك من يرى أن الفنون تنحدر ولا تتطور من الأدني إلى الأعلى.
طرحت أسئلة كثيرة على نظرية التطور المطبقة على المجتمع والجماليات. فهل التطور هادف وما غايته؟ وهل التقدم حتمي؟ وإلى متى يظل التقدم "يتقدم"؟ ولماذا هناك الآن شعوب أو بقايا شعوب بدائية انسجمت مع بيئتها فلم تهطل عليها شآبيب التطور؟ وهل تطور المادة هو تطور المفاهيم الجمالية؟
حتى الآن ما تزال التطورية تستغل في كثير من الميادين، حتى في ميدان السياسة فقد استغل فرنسيس فوكوياما نقطة في نظرية هيغل عن التاريخ وبنى عليها سياسة عالمية. فقد رأى أن التاريخ سوف يصل إلى نهايته عندما تدخل البشرية عصر اللبرالية حسب المفهوم الهيغلي(4) وفي هذه المرحلة لا تعود الروح المطلق في تناقض مع العالم الموضوعي إذ تتم السيطرة على الضرورات(5)
وإلى جانب ذلك نجد نظريات عدة لا تنصاع لنظريات التطور في القرن التاسع عشر من أمثال نظرية العود الأبدي(6) والإنسان الساعي إلى التفوق على ذاته(7) الإنسان معبر وليس هدفاً وسبيل وافق غروب في تكرار متوال وحركة لولبية صاعدة(8). ومسألة المقدس الذي قد يحوله التطور إلى مدنس(9) لا تجد من يؤيدها في الأدب والفن. فلا نظن أن مسرحية /في انتظار غودوت/ لبيكت اسقطت القدسية عن مسرحية /بروميثوس/ لاسخيلوس مثلاً "ليس هذا وحسب بل إن بعض أفكار القرن الثامن عشر خضعت للنقد كفكرة التقدم(10).
حتى في القرن التاسع عشر نسمع أصواتاً تعامل الأدب بخصوصية بعيدة عن صخب التطور. فجان ماري جويو رأى أن الأدب أبعد من أن يخضع لتلك العوامل التطورية التي أراد أصحابها أن تكون شاملة لكل الظواهرة الطبيعية والاجتماعية والروحية. وجويو لا يرى أن التطور سيعصف بالتقليد الأدبي بل يغنيه من غير أن يغيّره أو يغيّر شيئاً من طبيعته. فالشعراء هم أنفسهم وهم نحن وهم المستقبل. وهم يعبرون عما لا يزول في الإنسان، عما هو باق وإن زالت الصور الواهية التي ينحبس فيها العقل المجرد(11).
هلل نيتشه لهذه المحاولة وحياها ورأى فيها صوتاً ينفرد عن صخب التطور وديماغوجيته. إلا أن جويو لم يعمل على إقامة نظرية أدبية متكاملة، فاكتفى بالدفاع عن الشعر والأدب والفن وإظهار أن العلم لا يتعارض مع الفن بل يزيده رونقاً ويغنيه مضموناً. ويبدو أن العاملين في حقل الإبداع لم يسهموا كثيراً في تقديم نظرية أدبية على غرار ما فعل ارستوفانز في مسرحية /الضفادع/. إنه لشيء ملفت للنظر أن تكون النظريات الأدبية الحديثة من تأثير الفلاسفة وعلماء النفس واللغويين والنقاد والانتروبولوجيين أكثر من تأثير الشعراء والأدباء والفنانين. والنظريات الأدبية الحديثة هي:
1-الماركسية.
2-الشكلانية.
3-الوجودية
4-البنيوية وما بعد البنيوية..
5-الفرويدية
6-النقد الأسطوري وهي التي بنيت على نظرية كارل غوستاف يونغ في علم النفس التحليلي.
والملاحظ على هذه النظريات الأدبية أنها بعيدة عن الخضوع لصخب التطور الذي خضعت له النظريات الأدبية السابقة، فقد تأثرت الطبيعية بالتطور العلمي وتأثرت الواقعية بالعلوم الاجتماعية والسياسية وكانت الرومانسية ردة فعل على التطورات العاصفة التي أصابت المدن إثر الثورة الصناعية.. وهكذا. ويمكن القول إن النظريات الأدبية الحديثة تعتمد على الثوابت أكثر مما تعتمد على التطورات والظروف الطارئة -إنها تمنح هامشاً للتطورات ولكنها لا تنساق مع صخب النظريات التطورية انسياقاً متسيباً. أو ربما كانت رداً على هذا الصخب وتمسكاً بما هو ثابت في النوازع الإنسانية المشتركة.
لعبت نظريات يونغ دوراً أخذ يتعاظم منذ الثلاثينات في هذا القرن. وعرض هذه النظريات: يحتاج إلى كتاب إن لم يكن إلى كتب، وعلى الأخص غب الدخول في ميكانيزما العمليات النفسية. ولذا من الأفضل تقصي تجليات اليونغية لدى أبرز النقاد الأسطوريين. وهذه التجليات لا تقدم طبعاً الصورة الكاملة لليونغية، إلا أنها تقدم لوحة مقبولة للوجه النقدي الأدبي والدراسات التحليلية للنصوص الأدبية. فيونغ لم يكتب دراسات أدبية كثيرة. هناك دراستان موسعتان عن علمين أدبيين: الأولى عن غوته والثانية عن جويس. الأول لم يكن معاصراً له والثاني كان من أخلص تلاميذه، استوعب نظريته وكتب ملحمته /أوليس/ دافعاً بأبطال الأوديسة في مواجهة العصر الحديث، فكانت من أعظم الروايات الراصدة لتحولات الأنماط الأولية وتغير تصرفاتها تجاه المستحدثات، مع ثبات الراسب النفسي.
إن نظرة يونغ إلى الإنسان هي نظرة كلانية واسعة، كان يحرص عليها باستمرار لدى تحليله أي ظاهرة إنسانية. والتحليل في الدراسات الإنسانية مشكلة محرجة، فأنت مضطر إلى اجتزاء ما هو بنية متماسكة مع الكلي أو الكوني. يكفي أن نقدم مثالاً واحداً لتحليل يونغ عن النمط الأنثوي الأولي لنتبين مدى التواشجات المتداخلة - فقد بدأ بتحليل هذا النمط راصداً اجتماع اليونغ واليانغ، المذكر والمؤنث وكيف أن النمط البدئي الأنثوي كان ثنائي الجنسية في البداية، وكم تجر هذه التواشجات من تفرعات وشروحات طويلة لمعرفة الحركة الكلانية وليس فقط نشاط النمط الأولي. لقد انتهى من دراسته إلى الصور البدئية التالية:
1-الليل، اللاوعي، التلقي..
2-البحر، الماء، النهر، الينبوع، البركة، البحيرة..
3-التراب، الجبل، الصخرة، الهضبة..
4-الغابة، الوادي، الأكمة، الشجرة..
5-الكهف، العالم السفلي، وكل ما يتعلق بالأعماق...
6-التنين، الموت، العنكبوت..
7-الساحرة والجنية والعذراء الطاهرة المقدسة والجنية التي غدت أميرة..
8-المنزل والصندوق والقدر والسلة والأوعية.
9-البقرة والبطة ومعظم الحيوانات التي تدل على الأنوثة والعطاء والنزوع الأنثوي.
10-الوردة والزنبقة والفواكه والثمار..
11-الأم السفلية..
12-الجدة.
13-الأم الخاصة
ولو رحنا نرسم لوحة لتأثيرات شجرة القرابة والتأثيرات المتبادلة لاحتجنا إلى جداول كثيرة جداً وطويلة جداً للأخ والأخت والأب والأم والجد والأنساق الأخرى للقرابة وأنماط الصلة التي تنطبع في النفس. ولو عرضنا تحليله الأخاذ للرمز الصيني تايشيتو لثنائية النور والظلمة -المذكر والمؤنث- في تضافره الكلي لاقتضى شرح العلاقات المتداخلة والمعقدة بين الإحساس والشعور والحدس والتفكير ناهيك عن أعماق اللا شعور الفعال واللاشعور القابع في العتمة. إن كاتدرائية ضخمة جداً وكثيرة المقصورات المتداخلة، فيها يترابط الفردي بالاجتماعي والذاتي بالموضوعي والشعور باللاشعور، والأنوثة بالذكورة، والأسطورة بالتفكير والصور والمحلي بالكوني والحاضر بالماضي والزمني بالتزامني..
إن ابتعاد يونغ عن صخب النظريات التطورية دفعه إلى متابعة استمرارية وحدة الشعور البشري على تنوعه وتباينه في مواجهاته الظواهر الكونية، وارتباطه بالبنية العميقة للنفس الإنسانية. وهذه الوحدة في العمق الإنساني لا تتجلى دائماً بآثار أدبية وفنية ودينية واحدة من حيث المظهر. إنها متنوعة ولكنها مرتبطة في العمق بوحدة آسرة. إن دراسة يونغ للماندالات منذ أقدم الأزمنة وحتى هذه العصور بينت هذه الوحدة. إن وضع المسيح في وسط الماندالا بدلاً من بوذا هو تنوع لا شك، لكنه تنوع تجليات الوحدة إن صح التعبير. إن البؤرة الكونية واحدة والأنساق المحيطة القريبة والبعيدة تكاد تكون واحدة من حيث الدلالة.
إن كل ما في نظرية يونغ يشجع على قيام نظرية أدبية حديثة. إن النظرية الأدبية لا تستطيع أن تربط نفسها بالتطورات العابرة التي تفرزها هذه المرحلة أو تلك. إن كل نظرية، أدبية كانت أو غير أدبية، تسعى إلى الشمولية والوحدة والاستمرارية، وهذا ما يتوافر في النظرة اليونغية، يضاف إلى ذلك اهتمامه الكبير بالروح، وهو شيء كاد ينفرد به بين الفلاسفة وعلماء النفس.
وعلى هذا فإن اليونغية لا تولي ظاهرة انخلاع الأثار الفنية عن زمنها كبير اهتمام، فالماندالا بغض النظر عن تجلياتها الفنية العديدة، ما تزال تعيش في أعماقنا. إنها ترتيب كوني يتركز حول بؤرة. وهذا أسّ حميم في التفكير البشري. وقد يكف البشر عن صنع أو رسم الماندالا، ومع ذلك تعيش في التصورات والأعماق النفسية. فظاهرة الانخلاع هي ظاهرة خارجية تتحكم فيها ظروف طارئة، وتظل مسيرة الإنسان مرتبطة بالثوابت العميقة كما يرى يونغ.
هل انكشفت النفس الإنسانية بكامل دقائقها وعملياتها ما دامت تتميز بهذا الثبات أو الوحدة المشتركة بين البشر؟ إن المخروط التالي يبين كيف أن هناك قسماً كبيراً وربما كان الأكبر من كل الأقسام معاً، لا نستطيع جرّه أو دفعه إلى الوعي، أو بالأحرى لانستطيع أن نرصده في الوعي.

الأنا

الوعي

اللاوعي الشخصي

اللاوعي الجمعـــــي

اللاوعــي الجمعـــي الأعمــــق

إن هذا القاع السحيق مستعص على الرصد.
إن النقد الأسطوري المنبثق من نظرية يونغ لم يقتصر على الانماط الأولية كما يذهب بعض الدارسين. فبعض النقاد- كما سوف نرى- استقصى دور الأسطورة والطقوس وكيف جرى الانسجام بين الحياة اليومية ودورة الطبيعية كما أن هناك من تابع المصطلحات اليونغية في الآثار الشعرية مثل الظل والقناع والعصاب والرمز.. لكن الحقيقة أن الأنماط الأولية ظلت تحتل المكانة الأولى في النقدالأسطوري.
وقد أثبت النقد الأسطوري أن ثمة هامشاً كبيراً للتجديد، كما أن هناك فسحة واسعة للتفرد، فإذا كان النول واحداً فإن النسيج متنوع تنوعاً غنياً جداً.
لقد اخترنا أعلاماً من النقد الأسطوري نأوْا عن صخب النظريات التطورية. منهم من التزم التزاماً شديداً بنظريات يونغ مثل بود مودكين، ومنهم من استفاد أكثر من الدراسات الانتروبولوجية فأضاف الكثير ومنح نفسه حرية التطواف في ميادين جديدة مثل نورثروب فراى الذي تشدد في مسألة وحدة النفس البشرية مما جعله يزيل كل الحواجز بين الأنواع الأدبية، حتى جعل الأدب يمتد من لغة ملتون الفخمة حتى حديث الناس العادي في الشارع، وجعل ما قبل الأدب والأدب شيئاً واحداً وكذلك السينما والرسم والموسيقى...
إن ما يهمنا هو تقصي اليونغية في النقد الأسطوري. أما تلك المنمنمات النفيسية وكذلك سبر الأعماق والعمليات العلاجية.. فإنها تهم المختصين بعلم النفس أكثر مما تهم النقاد والأدباء الذين كالنحلة امتصوا من النظرية الرحيق المناسب لأقراص شهدهم
.


0 komentar:

Posting Komentar

أهلا وسهلا في رحاب الآداب العربية مع حليمي زهدي.