
قال أبو محمد: تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب.
ضربٌ منه حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل في بعض بني أمية:
في كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبقٌ ... مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عرْنِينِهِ شممُ
يغْضِى حَيَاءً ويُغْضَى مِنْ مَهَابَتِةِ ... فَما يُكلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
لم يقل في الهيبة شيءٌ أحسن منه.
وكقول أوس بن حجر:
أيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلى جَزَعَا ... إنَّ الَّذِي تَحْذرِينَ قَدْ وَقَعَا
لم يبتدى أحدٌ مرثيةٌ بأحسن من هذا.
وكقول أبي ذؤيبٍ:
والَّنْفُس رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا ... وإذَا تُرَد إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
حدثني الرياشي عن الأصمعي، قال: هذا أبدع بيت قاله العرب.
وكقول حميد بن ثورٍ:
أَرَى بَصَرِي قَدْ رَابَني بَعْدَ صِحَّةٍ ... وحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وتَسْلَمَا
ولم يقل في الكبر شيءٌ أحسن منه.
وكقول النابغة:
كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ ... ولَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِىءِ الكَوَاكِب
لم يبتدى أحدٌ من المتقدمين بأحسن منه ولا أغرب.
ومثل هذا في الشعر كثيرٌ، ليس للإطالة به في هذا الموضع وجهٌ، وستراه عنه ذكرنا أخبار الشعراء.
وضربٌ منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:
ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجةٍ ... ومَسَّحَ بِالأَرْكانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
وشُدَّتٌ على حُدْبِ المَهَارِى رحَالُنَا ... ولا يَنْظُرُ الغَادِي الذي هُوَ رَائحُ
أَخَذْنَا بِأَطْرافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَاوسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِىِّ الأَبَاطِحُ
هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيءٍ مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح.
وهذا الصنف في الشعر كثيرٌ.
ونحوه قول المعلوط:
إِنَّ الذين غَدَوْا بُلِّبكَ غادَرُوا ... وَشَلاً بِعَيْنِكَ مَا يَزَالُ مَعِينَا
غيَّضْنَ مِنْ عَبَرَاتِهِنَّ وقُلْنَ لي ... مَاذَا لَقِيتَ مِنَ الْهَوَى ولَقِينَا
ونحوه قول جريرٍ:
يا أُخْتَ نَاجِيَةَ السَّلَامُ عَلَيْكُمُ ... قَبْلَ الرَّحِيلِ وقَبْلَ لَوْمِ العُذَّل
لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ آخِرَ عَهْدكُمْ ... يَوْمُ الرَّحِيل فَعَلْتُ ما لم أَفْعَل
وقوله:
وليس هذا كما ذكر العجاج، ولا المثل الذي ضربه للهجاء والمديح بشكل، لأن المديح بناءٌ والهجاء بناءٌ، وليس كل بانٍ بضربٍ بانياً بغيره. ونحن نجد هذا بعينه في أشعارهم كثيراً، فهذا ذو الرمة، أحسن الناس تشبيهاً، وأجودهم تشبيباً، وأوصفهم لرمل وهاجرةٍ وفلاةٍ وماءٍ وقرادٍ وحيةٍ، فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع. وذاك أخره عن الفحول، فقالوا: في شعره أبعار غزلانٍ ونقط عروسٍ! وكان الفرزدق زير نساءٍ وصاحب غزل، وكان مع ذلك لا يجيد التشبيب. وكان جريرٌ عفيفاً عزهاةً عن النساء، وهو مع ذلك أحسن الناس تشبيباً، وكان الفرزدق يقول: ما أحوجه مع عفته إلى صلابة شعري، وما أحوجني إلى رقة شعره لما ترون.
0 komentar:
Posting Komentar