
ومما يجب توطيده وتقديمه، قبل الذي أريد أن أتكلم فيه، أن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها، فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور منها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة.
وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان، من الرفعة والضعة، والرفث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والعضيهة، وغير ذلك من المعاني الحميدة والذميمة: أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة.
ومما يجب تقديمه أيضاً أن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئاً وصفاً حسناً، ثم يذمه بعد ذلك ذماً حسناً أيضاً، غير منكر عليه ولا معيب من فعله، إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك عندي دليل على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها.
وإنما قدمت هذين المعنيين، لما وجدت قوماً يعيبون الشعر إذا سلك الشاعر فيه هذين المسلكين، فإني رأيت من يعيب امرأ القيس في قوله:
فمِثْلُكِ حُبْلى قد طرَقْتُ ومُرْضِعٍ ... فَأَلهيْتُها عنْ ذِي تَمائِمَ مُحْوِلِ
إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ
ويذكر أن هذا معنى فاحش، وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلاُ رداءته في ذاته.
وكذلك رأيت من يعيب هذا الشاعر أيضاً في سلوكه للمذهب الثاني الذي قدمته، حيث استعمله اقتداراً وقوة، وتصرف فيه إحساناً وحذاقة، وذلك قوله في موضع:
فلَوْ أنَّ ما أَسْعَى لأَدْنَى معِيشَة كَفانِي ولم أطْلُبْ قليلٌ مِنَ المَالِ
ولَكِنَّمَا أَسْعى لِمَجْدٍ مُؤثَّلٍ ... وقَدْ يُدْرِكُ المجْدَ المُؤثَّلَ أَمْثالِي
وقوله في موضع آخر:
فَتَمْلَأ بَيْتَنا أقِطاً وسمْناً ... وَحَسْبُك من غِنىً شِبَعٌ وَرِيُّ
فإن من عابه، زعم أنه من قبل المناقضة، حيث وصف نفسه في موضع بسمو الهمة وقلة الرضى بدنئ المعيشة، وأطرى في موضع آخر القناعة، وأخبر عن اكتفاء الإنسان بشبعه وريه.
وإذ قد ذكرت ذلك، فلا بأس بالرد على هذا العائب في هذا الموضع، ليكون في ما احتج به بعض التطريق لمن يؤثر النظر في هذا العلم إلى التمهر فيه، فأقول: إنه لو تصفح أولاً قول امرئ القيس حتى تصفحه لم يوجد ناقض معنى بآخر، بل المعنيان في الشعرين متفقان، إلا أنه زاد في أحدهما زيادة لا تنقض ما في الآخر، وليس أحد ممنوعاً من الاتساع في المعاني التي لا تتناقض، وذلك أنه قال في أحد المعنيين: فلو أنني أسعى لأدنى معيشة كفاني القليل من المال.
وهذا موافق لقوله:
وحسبك من غنىً شبع ورى
لكن في المعنى الأول زيادة ليست بناقضة لشيء، وهو قوله: لكنني لست أسعى لما يكفيني، ولكن لمجد أؤثله.
فالمعنيان اللذان ينبئان عن اكتفاء الإنسان باليسير في الشعرين متوافقان، والزيادة في الشعر الأول، التي دل بها على بعد همته، ليست تنتقض واحداً منهما ولا تنسخه.
وأرى أن هذا العائب ظن أمرأ القيس قال في أحد الشعرين: إن القليل يكفيه، وفي الآخر: إن القليل لا يكفيه.
0 komentar:
Posting Komentar